إسبانيا- دعم فلسطين في محكمة العدل الدولية ومواجهة الإبادة الجماعية.

المؤلف: د. محمد الروين10.19.2025
إسبانيا- دعم فلسطين في محكمة العدل الدولية ومواجهة الإبادة الجماعية.

تواصل إسبانيا ريادتها للمشهدين الأوروبي والعالمي، وتثري سجلها بالمبادرات الإنسانية النبيلة، نصرةً للقضايا الإنسانية العادلة والتحررية، ورفضًا قاطعًا للاحتلال الصهيوني الغاشم في فلسطين. ففي خطوة تاريخية مدوية، اتخذت مدريد قرارًا شجاعًا في شهر مايو/أيار المنصرم بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، وذلك بعد مرور أكثر من ستة وسبعين عامًا على النكبة المؤلمة التي استولى خلالها الصهاينة على الجزء الأكبر من أرض فلسطين، وبعد مرور أكثر من قرن على الانتداب البريطاني المشؤوم الذي مهد الطريق أمام هذا الاحتلال.

وفي بادرة استثنائية على مستوى الاتحاد الأوروبي، أعلنت مدريد في الثامن والعشرين من شهر يونيو/حزيران الماضي، عن تقديم طلب رسمي للانضمام إلى الإجراءات القانونية التي رفعتها جمهورية جنوب أفريقيا ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، وذلك في سياق القضية المتعلقة بموضوع الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

وقد ورد هذا الإعلان في بيانين رسميين صادرين عن جهتين مختلفتين: البيان الأول صادر عن وزارة الخارجية الإسبانية، والبيان الثاني صادر عن محكمة العدل الدولية نفسها، مما يعكس بوضوح الصعود الاستراتيجي للدور الإسباني على الصعيد الجيوستراتيجي العالمي. وقد حول هذا الموقف إسبانيا إلى لاعب دولي بارز وصاعد، يقود محورًا أوروبيًا جديدًا آخذًا في التبلور بقوة داخل أروقة الاتحاد الأوروبي، في مواجهة محور تقليدي آخذ في التراجع والاضمحلال، وتمثله الدول الثلاث التي لطالما ارتبطت بماضٍ استعماري دموي، وهي: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والتي تتبنى سياسات داعمة ومساندة للإبادة الجماعية في فلسطين، وتوفر لها الغطاء السياسي اللازم.

اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية لسنة 1948

تجدر الإشارة إلى أن جمهورية جنوب أفريقيا، الدولة المعروفة تاريخيًا بمناصرتها الثابتة للقضية الفلسطينية العادلة، كانت قد تقدمت بتاريخ التاسع والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، بطلب رسمي إلى محكمة العدل الدولية ضد كيان الاحتلال في فلسطين، متهمة إياه بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بكافة أركانها وعناصرها القانونية في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

وفي السادس والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري، أصدرت المحكمة قرارًا تمهيديًا أمرت فيه إسرائيل بالقيام فورًا بكل ما يلزم من إجراءات، لوقف اعتداءاتها الوحشية في حق الفلسطينيين، وذلك بموجب أحكام الاتفاقية الدولية التاريخية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

وعقب العملية العسكرية الإسرائيلية الغاشمة في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والتي أسفرت عن تهجير قسري لأكثر من مليون نسمة من سكانها المدنيين، أمرت المحكمة كذلك في الرابع والعشرين من شهر مايو/أيار الماضي، إسرائيل بوقف جميع أعمالها العسكرية العدوانية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، وهو الموضوع الأساسي الذي تحظى بحمايته نفس الاتفاقية الأممية. كما طالبت المحكمة بالإفراج الفوري عن الرهائن، الذين تم اعتقالهم في السابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وقد انخرطت إسبانيا في هذه القضية الجارية أمام المحكمة استنادًا إلى الفصل الثالث والستين، وتحديدًا فقرته الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948، والتي دخلت حيز النفاذ والتطبيق بتاريخ الثاني عشر من شهر يناير/كانون الثاني من سنة 1951، والتي يعتبر كل من كيان الاحتلال الإسرائيلي وإسبانيا طرفين ملتزمين بأحكامها.

وفي الخامس والعشرين من شهر يونيو/حزيران الماضي، انعقد مجلس الوزراء الإسباني برئاسة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، ووافق بالإجماع على تعيين كل من "سانتياغو ريبوي كارويا" و "ماريا كونسويلو فيمنيا غوارديولا"، وذلك بعد اقتراحهما من قبل مؤسسة المحامي العام للدولة، كممثلين قانونيين رسميين عن إسبانيا، ليقوما بتمثيلها المشرف أمام محكمة العدل الدولية، وذلك عقب انضمامها إلى القضية المعروضة أمامها في موضوع انتهاك كيان الاحتلال الإسرائيلي لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في فلسطين، وهي القضية التي رفعتها في الأساس دولة جنوب أفريقيا.

الجدير بالذكر أن سانتياغو ريبوي كارويا هو أستاذ كرسي مرموق في القانون الدولي العام والعلاقات الدولية بجامعة "بامبو فابرا"، ويشغل أيضًا منصب رئيس قسم المستشارين القانونيين بوزارة الخارجية الإسبانية، أما ماريا كونسويلو فيمنيا غوارديولا، فهي سفيرة إسبانيا السابقة في هولندا، وشغلت قبل ذلك منصب سفيرة في كل من إستونيا ومالطا، كما كانت سفيرة بالبعثة الخاصة لإسبانيا في اتفاقية تجارة الأسلحة.

إسبانيا تنضمّ إلى الإجراءات ولا تنصب نفسها طرفًا في القضية

من الناحية الإجرائية والقانونية، لم تنصب إسبانيا نفسها كطرف مباشر في القضية المرفوعة أمام المحكمة، بل إنها انخرطت في مسطرة قانونية جارية بالفعل أمام المحكمة، وذلك طبقًا لأحكام الفصل الثالث والستين من النظام القانوني الذي يؤطر عمل هذه الأخيرة، حسبما ورد في بيان محكمة العدل الدولية الصادر بتاريخ الثامن والعشرين من شهر يونيو/حزيران.

وهو ما أكده أيضًا خوسيه مانويل ألباريس، وزير الخارجية الإسباني، في مختلف تصريحاته الصحفية والإعلامية حول هذا الموضوع، مؤكدًا في نفس السياق أن "إسبانيا ستلتحق بالمسطرة التي تقف وراءها دولة جنوب أفريقيا، وهو ما ينسجم تمام الانسجام مع مقتضيات الفصل الثالث والستين من القانون المنظم لعمل المحكمة، والذي ينص صراحة على أن جميع الدول الأعضاء لها الحق الكامل في المشاركة الفعالة في المساطر المفتوحة أمام المحكمة".

وفي نفس السياق، اعتبر الوزير ألباريس أن "انخراط إسبانيا في هذه الإجراءات القانونية لا يعني بأي حال من الأحوال الانحياز لطرف دون آخر، بقدر ما يؤكد الدعم المطلق لقضاة المحكمة، في عملهم القضائي الدؤوب في التحري والتدقيق واتخاذ ما يلزم من إجراءات، قبل اتخاذ القرار النهائي بما ينسجم مع مقتضيات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي. فإسبانيا من جهتها ستعمل بكل جد وإخلاص على توفير كافة المعطيات والعناصر اللازمة للتأويل القانوني بشكل يمكّن المحكمة من بناء وتكييف حكمها بشكل سليم وفقًا للقانون في هذه القضية الإشكالية والمعقدة".

كما أشار ألباريس أيضًا، إلى أن إسبانيا هي الدولة الأوروبية الأولى التي أقدمت على الانخراط في هذه الإجراءات القانونية، معتبرًا أن دولاً أوروبية أخرى ستحذو حذو إسبانيا وتقوم بنفس الخطوة، وذلك بعد أن تنتقل المحكمة من النظر في الجوانب الشكلية والإجرائية إلى الجوانب الموضوعية الجوهرية، لكي تحدد بشكل قاطع ونهائي ما إذا كان كيان الاحتلال الإسرائيلي قد قام فعلًا بخرق الاتفاقية الأممية لمنع جريمة الإبادة الجماعية في فلسطين أم لا.

إسبانيا، التي تعلن على الملأ عن سعيها الحثيث إلى تحقيق السلام العادل والشامل في فلسطين والشرق الأوسط، تهدف من خلال هذه الخطوة الشجاعة، إلى وضع حد للاعتداء الإسرائيلي الهمجي المتواصل والسير بخطى ثابتة نحو تحقيق حل الدولتين، باعتباره الضمانة الوحيدة لتمكين الإسرائيليين والفلسطينيين من العيش في أمن وسلام وازدهار، وتحقيق الاستقرار الدائم في المنطقة في إطار دولي تعددي يقوم على أسس راسخة من القواعد القانونية الملزمة، حسب تصريحات أدلى بها الوزير ألباريس، ونقلتها وكالة الأنباء الإسبانية إيفي.

وختامًا، يمكن القول بكل ثقة إن إسبانيا قد عكست بالملموس أنها دولة مخلصة لتاريخها العريق ولجزء أصيل من هويتها الحضارية والإنسانية، بعد أن دشنت بداية مرحلة جديدة من إحداث تشققات حقيقية في توجهات الرأي العام الدولي، انتصارًا للقضية الفلسطينية العادلة. وهو الأمر الذي يبدو واضحًا وجليًا من خلال الدول التي اختارت هذا المنحى النبيل، مثل: كولومبيا، وتشيلي، ونيكاراغوا، وليبيا، ودولة فلسطين نفسها، التي سبق لها أن طالبت بإدخالها طرفًا في المسطرة القانونية الجارية أمام المحكمة ضد إسرائيل.

وهناك دول عديدة أخرى عبرت صراحة عن اهتمامها العميق بهذا الموضوع الشائك، دون تحديد موعد زمني للقيام بنفس الخطوة، مثل المكسيك على سبيل المثال لا الحصر. والأهم من كل ذلك، أن الباب لا يزال مفتوحًا على مصراعيه، ويبدو أن إسبانيا تلعب دورًا محوريًا ورياديًا في رعاية هذه التفاعلات الإيجابية والبناءة، خصوصًا على المستويين الأوروبي والغربي.

السقف القانوني لعمل المحكمة الدولية

مما لا شك فيه أن سقف وآفاق عمل المحكمة من الناحية القانونية، على الرغم من أهميته البالغة، يبقى محدودًا نسبيًا. وهذا ما أكده وأجمع عليه نخبة من خبراء القانون الدولي البارزين. حيث صرح خوسيه أنخيل لوبيز، وهو أستاذ القانون الدولي المرموق في جامعة بونتيفيسيا كومياس قائلاً: "إن المحكمة قد تفاعلت بشكل إيجابي مع الطلب الذي تقدمت به دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وطالبت الأخيرة بالقيام الفوري بالإجراءات والتدابير الوقائية الضرورية للحيلولة دون وقوع إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني".

إلا أنه سجل في الوقت ذاته، أن المحكمة لم تصدر قرارًا صريحًا وواضحًا بالوقف الفوري لإطلاق النار.

من جهته، يرى سيرجيو كستانيو، وهو أستاذ العلاقات الدولية بجامعة "لاريوخا": أن قرار محكمة العدل الدولية يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك حدود صلاحياتها ونطاق اختصاصها، وهو الأمر الذي سيدفع رئيس وزراء كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى عدم الامتثال للتدابير الوقائية المطلوبة، وسيمكّن الجانب الإسرائيلي من الحصول على آجال قانونية إضافية لتقديم مذكرات تعقيبية مفصلة في هذا الموضوع. الأمر الذي ينذر باحتمال طول مدة المساطر القانونية وتعدد مراحلها. فالمساطر، حسب تقديرات خبراء القانون الدولي والعلاقات الدولية، قد تستغرق سنة كاملة أو عدة سنوات قبل صدور الحكم النهائي والبات.

فطبيعة الإجراءات القانونية المعقدة للنظام القانوني لمحكمة العدل الدولية، وغياب آلية قانونية ملزمة وواضحة لتنفيذ قراراتها، إلى جانب منهجية انتخاب القضاة العاملين بها، تحت إشراف ومراقبة دقيقة من كل من هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، يوشك أن يفرغ اجتهاد قضاة المحكمة من مضمونه الفعلي والتطبيقي. الأمر الذي يجعل من الدعوة الملحة إلى مراجعة شاملة وجذرية لمجمل عناصر المنظومة القانونية التي تؤطر عمل المحكمة، موضوعًا ملحًا وضروريًا وله ما يبرره من أسباب.

خصوصًا وأن هذه ليست الحالة الأولى التي يشهد فيها العالم رفضًا صريحًا للامتثال لقرارات المحكمة الدولية. فالولايات المتحدة الأميركية، سبق لها أن تجاهلت حكمًا صادرًا عن نفس المحكمة، وكان ذلك مرتبطًا بموضوع الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا إبان فترة الثمانينيات.

ومع ذلك، تبقى لقرارات المحكمة تأثير رمزي كبير، يسهم في تضييق الخناق القانوني على منظومة الاحتلال الإسرائيلية، ويساهم في عزلتها المتزايدة وتفكيك بنائها السردي الزائف الذي صنعت منها دور الضحية على مر عقود طويلة من الزمن. ففي المقابل، يثبت حكم المحكمة على الاحتلال صورة المجرم الذي وإن أفلت قادته من العقاب العاجل، فإنهم لن يفلتوا منه حتمًا في المستقبل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة